قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- :
[ولهذا لما كانت خديجة-رَضِيَ اللهُ عَنْها- تعلم من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: {إني قد خشيت عَلَى نفسي فقالت: كلا، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين عَلَى نوائب الحق}، فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لم يكذب.
وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كَانَ مجبولاً عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله عَلَى الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة: فإنه لا يخزيه.
وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القُرْآن فقرؤوا عليه: "{إن هذا والذي جَاءَ به موسى عَلَيْهِ السَّلام ليخرج من مشكاة واحدة}: وكذلك ورقة بن نوفل لما أخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما رآه، وكان ورقه قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: {أي عم اسمع من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما رأى فقَالَ: هذا هو الناموس الذي كَانَ يأتي موسى}]اهـ.

الشرح :
خديجة رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها: امرأةٌ ذات عقل راجح، وحكمةٍ، ورويَّه، وتبصر بالأُمور. لما أتاها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو في تلك الحالة التي صورها حديث عَائِِِشَةَ في أول صحيح البُخَارِيّ في بدء الوحي: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاء، وفؤاده يرجف}، وهو خائف وجل من هذا الحدث الهائل، الذي لم يكن يتوقعه، والذي خاف منه عَلَى نفسه، كَانَ يتعبد ويتحنث في ذلك الغار، وإذا هذا الملك يأتي، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يكن يعرفه، ولم يسمع عنه من قبل ولم يسمع أنه جَاءَ إِلَى أحد، فيأتيه، ويناديه من بين السماء والأرض ثُمَّ ينـزل إليه، فيغطه الثلاث المرات، ثُمَّ يقول له: اقرأ كما هو معلوم في الحديث، ويأتي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفؤاده يرجف وهو خائف هلع في هذه الحادثة التي لا عهد له بها.
فأتى إِلَى خديجة-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، وكانت نِعم الزوجة، وصارحها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعرض عليها المشكلة.
وقَالَ: {لقد خشيت عَلَى نفسي}، فلا يدري صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هذا الأمر، ويخشى أمراً لا يدري ما نهايته وهل له من نهاية أم يقف عند هذا الحد؟ كل ذلك غيب بالنسبة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنه ما كَانَ يرجو أن يلقى الله إليه الكتاب، ولا كَانَ يتوقع ذلك، ولا علم له بأمثال هذه الأمور المغيبة.

الشاهد: أن خديجة-رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما أرادت أن تطمئن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ناحية، وأن تفكر فيه وترى الحق والبصيرة من ناحية أخرى، لأنها هي أيضاً قد تخاف وتخشى عليه أن يكون ماحدث له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجان والشيطان، لكنها فكرت في ذلك بهذا العقل الراجح، وبهذه البصيرة التي لديها.
فقالت للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قال لها {لقد خشيت عَلَى نفسي: كلا! والله لا يخزيك الله أبداً!} أقسمت عَلَى ذلك وهي البارة الصدوق أن الله لا يخزيك أبداً، وذكرت هذه الصفات النبيلة الحميدة، التي من تحلى بها فلن يَخزى ولن يَذل أبداً {إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتُقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتُعين عَلَى نوائبِ الحق} هذه الصفات، صفات عجيبة، لا يمكن أن تجتمع في إنسان، ويخزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
.
فأهل الجاهلية عَلَى ما فيهم، كانوا إذا اجتمع في الرجل منهم حب العدل والعفاف والكرم، توقعوا له الخير، وحسن العاقبة والسمعة الحسنة والقبول، لأن كل النفوس مجبولة عَلَى أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عدل كريم يُجازي الإِنسَان من جنس ما يعمل، فهل يكون امرؤٌ يعمل هذه الأعمال الجليلة النبيلة التي تجمع العقول والفطر عَلَى نبلها وفضلها وشرفها، ويخزيه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
بينما رجل فاجر يتقحم في الموبقات، وفي المهلكات، والطغيان، والبغي، والعدوان ويكون له لواء المحامد والمناقب منشوراً مرفوعاً؟‍!
هذا لا يمكن وليس هذا من سنة الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- حتى عند الجاهليين عَلَى ما لحق بفطرهم، وعقولهم من الضلال، والزيغ والانحراف.

وهذه الصفات النبيلة وَصَفَ بها ابن الدغنة أبا بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وهذا دليل عَلَى المرتبة العليا التي كانت للصديق.
وابن الدغنة لم يسمع كلام خديجة؛ لأنه كَانَ عَلَى كفره لما وصف الصديق، ومع ذلك وصفه بأنه: يصل الرحم، ويقرئ الضيف، ويحمل الكل بنفس العبارات -تقريباً- التي وصفت بها خديجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فانظروا كيف تطابق هذا الوصف مع هذا، ثُمَّ انظروا كيف كَانَ أول رجل يؤمن بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو أبو بكر الصديق -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ولم يتردد قط، وإنما عَلَى الفطرة شهد أن الله واحد، وأن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق بلا تردد منه، فتطابق الصفات تدل عَلَى أن هذه الصفات صفات الخير تأتي في النبي وهي أعلاها.
ثُمَّ تكون في الصديق وهو الدرجة الثانية بعد النبوة، فأفضل الخلق بعد الأَنْبِيَاء هم الصديقون قال تعالى: ((فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ))[النساء:69] والواو هنا للترتيب، والترتيب في هذه الآية واضح أفضل النَّاس النبيين ثُمَّ الصديقين ثُمَّ الشهداء ثُمَّ الصالحين.

فهذه الصفات دليل للعقل -إن صح التعبير- وللحكمة، أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صادق، ومع ذلك فإن خديجة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- قد سلكت أقوى أنواع الاستدلال في النبوة، وأقوى أنواع اليقين، وأقوى أنواع العلم الضروري، كما يسمى العلم الضروري أي اليقيني الذي يقع في النفس بالبداهة، وخديجة-رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها- هي أكثر إنسان يهمها هذا الأمر، لأن هذا زوجها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالأمر يهمها أكثر من أي إنسان آخر، والخبر لا يزال إِلَى الآن محصوراً فيها وفيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا تريد أن يظهر إلا وهي متأكدة، فماذا حصل منها؟
جمعت بين دليلين: العقلي والنقلي.
أما العقل فهو هذا الذي نظرته بنظرها الثاقب.
وأما النقل فإنها ذهبت، إِلَى أصحاب الكتب الذين لديهم العلم، ولديهم الآثار عن الأنبياء، فذهبت إِلَى ورقة بن نوفل وأخذت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقالت له: قُص عَلَى ورقة ماذا جرى لك، فلما أخبره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك قال ورقة: {إن هذا لهو الناموس الذي نزل عَلَى موسى}
.